لن اتناول العنوان بالشرح والتفصيل والعرض التاريخي، فللمسند عالمه وللنسبة الذهبية فضاءها، بل ما يهمني هنا هو تمريرالضوء قدر الامكان على زاوية معتمة في صنع حروف المسند وتذوقها وتبيان الرابط الخفي بينها وبين والنسبة الذهبية، كأحد مقاييس الجمال.
أو كما تسميه الدراسات الاستشراقية Old South Arabian (العربي الجنوبي القديم) ظهر في نقوش باليمن ومناطق حكمتها سبأ ومعين وقتبان وحضرموت وحميَر، وتعتبر الكتابة الأمهرية في اثيوبيا الباقي الرسمي الوحيد من تجلياته.
والمسند أحد الانجازات الانسانية، تقاطع في بناءه الدين والحياة، الحرب والتجارة، الحساب والهندسة، المال والجمال، التاريخ والجغرافيا. ولا نحتمل تنحيته أو دفنه تحت اي ذريعة أو اوهام ثقافية او عرقية او جهوية كانت.
المعرفة الحالية بالمسند كفن مغطاة بضباب من الاهمال والتهميش والتجاهل، ناهيك عن "النهب غير العلمي الذي حرم الكثير من النقوش قدرا كبيرا من قيمتها واخرجها من سياقها الأثري" بحسب الموسوعة البريطانية، هذا من ناحية، وافتقار مكتباتنا الى دراسات جمالية حول هذا النمط الكتابي الفريد، من ناحية اخرى.
في مقال سابق في مطلع عام2018 كتبت عن النقش المسندي كمعطى جمالي
الشكل (1)
الشكل (1) يبين الحرفية العالية في نقش مسندي للملك يصدق ايل
وأنت تتأمل خطوط المسند التي بدأت في تصميمها منذ عام 2006 تجدها خطوطا عادية تنتمي للعالم الرقمي كغيرها من الخطوط المحددة الوظيفة والتوافق التقني.
الشكل (2)
الشكل (2) خطوط سلطان المسندية (انقر على الصورة للتكبير)
ولكن، هل جربت يوما متعة مشاهدة وملامسة نقوش حقيقية صنعت منذ 3000 عام، ووجدت في حروفها من السحر والروحانية والعجب؟
هل قعدت مطولا امام التفاصيل الفنية في هذه النقوش متفكرا في سر جاذبيتها ومكنون جمالها؟
نعم انها نقوش المسند المصنوع حروفها بأبعاد جمالية تعبر عن نفسها بجمال النسبة الذهبية، أو كما أسماها "لوكا باشيولي": (النسبة الإلهية)، وكغيره من فناني عصر النهضة استخدم هذه النسبة العبقري ليوناردو دا فينشي في لوحاته الخالدة مثل (المونوليزا) و (البشارة) و (العشاء الاخير) و (سالفاتور موندي) وهذه الاخيرة بيعت بالمزاد بمقدار 450،312،500 دولار، وبهذه النسبة صممت ايضا الاهرامات في الماضي، واجهزة الايفون، وشعارات جوجل وتويوتا وهونداي وتويتر وغيرها في الحاضر. وقد تحدث نفسك قائلا: هل تخلف عن ذلك من طوع في خدمته الرمال والجبال وصنع السعيدة! الإجابة لك أيضا...
في البدء، ما النسبة الذهبية (Golden Ratio)؟
ربما لم تهتم بالأمر من قبل، ولكن لتصل الى النسبة الذهبية ببساطة يمكن ان تقوم بما يلي:
- أرسم خطا مستقيما وسمه مثلا (c) ولونه باللون الأزرق، قسم هذا الخط الى قسمين (a) كقسم أطول ولونه باللون الاحمر و (b) كقسم أقصر ولونه باللون الأخضر،
- يجب ان تكون نسبة القسم الاطول (a) الأحمر الى القسم الاقصر (b) الأخضر هي نفس نسبة الخط الاصلي (c) الأزرق الى القسم الأطول (a) الأحمر.
- تلك النقطة الفاصلة هي النسبة الذهبية.
لاحظ الشكل (3) بعنوان golden-ratio-musnad اداة صممتها لتحليل حروف المسند في مقالتنا هذه
الشكل (3)
الشكل (3) النسبة الذهبية للمسند (انقر على الصورة للتكبير)
عموما، تتوفر العديد من المقالات حول استخدام النسبة الذهبية في التصميم والتكوين. معظمها يشرح النسبة الذهبية في الكون، الفن وجمال الوجه، الهندسة والرياضيات، واللاهوت، وحتى الأسوق وصنع الشعارات.
وتصميم الحرف هو مسار معقد من العمل المضنى، لأنه مزيج من العلم والفن، فكل حرف يتكون من أجزاء محددة بنسب واضحة ومواصفات جمالية منتمية لمجمل الخط، محكومة بموروث كتابي وتقعيد صارم، وينشئ ابداع الأنماط الجديدة من الحروف في لحظة كسر القاعدة المتشربة المألوفة، يحققها المبدعون، وتنشء عنها مسارات عمل أخرى وحقبة جديدة في صيرورة الابداع.
سحر المسند
سأكتفي هنا بعرض حروف من خط المسند، يمتزج فيها ثلاثي القوة: صلابة الحجر وتحدي الصانع وسحر المقطع الذهبي، ووفق الأداة المعدة بثلاثة ألوان (الأزرق لارتفاع للحرف والاحمر للجزء الأطول منه والاخضر للجزء الأقصر) كما بينت عن النسبة الذهبية في الشكل (3).
في الصور التالية وبالرغم تنوع هيئات الحروف المسندية في الاساليب الخطية المتنوعة وسماكاتها واطوالها ومواقعها وزمن صانعها ، الا انه يجمعها رابط خفي بمقاييس الجمال ، انه النسبة الذهبية :
الشكل (4)
الشكل (4) الخطوط الحمراء على الحروف مرثد يا زيد 𐩣 𐩧 𐩻 𐩵 𐩽 𐩺 𐩽 𐩸 𐩺 𐩵
تبين كيف نحتت الحروف وفق قاعدة a + b = c الذهبية ، ناهيك عن التركيب الجمالي لكلمة (مرثد 𐩣 𐩧 𐩻 𐩵 ) على يمين النقش (انقر على الصورة للتكبير)
الشكلان (5,6)
الشكلان (5،6) الخطوط الحمراء على حرف (ح 𐩢 )
تبين كيف نقش الحرف وفق النسبة الذهبية وعرض بالالوان يبين ذلك
(انقر على الصورة للتكبير)
الاشكال (7,8,9,10)
في الاشكال (7,8,9,10) الخطوط الحمراء على الحروف (ي 𐩺 ) ، (ا 𐩱 ) ، (ل 𐩡 )
تبين كيف نقشت الحروف بحرفية وثقة وفق النسبة الذهبية وعرض بالالوان يبين ذلك
(انقر على الصورة للتكبير)
وهناك العديد من الحروف يمكن استخراج النسبة الذهبية في تصميمها بكل بساطة ووضوح مثل:
الأشكال (11,12,13)
الأشكال (11,12,13) حروف (ك 𐩫 ) ، (ه 𐩠 ) ، (ص 𐩮 ) والنسبة الذهبية (انقر على الصورة للتكبير)
الأشكال (14,15,16)
الأشكال (14,15,16) الحرفين (ذ 𐩹 ) ، (س 𐩪 ) ، والرقم (50 𐩾 ) والنسبة الذهبية (انقر على الصورة للتكبير)
الشكل (17)الشكل (17) النسبة الذهبية لحرف ( و 𐩥 )، من سماكة الحرف وتوزيع الفراغ والكتلة (انقر على الصورة للتكبير)
الأشكال (18,19,20)
الشكل (18) الحرف (خ 𐩭 ) وهو مقلوب الحرف (ا 𐩱 ) ، والشكل (19) الحرف (ث 𐩻 ) لاحظ تشابه ذهبية الثاء والنسبة الذهبية للنملة في الشكل (20) (انقر على الصورة للتكبير)
وليست الحروف وحدها التي بنيت على نسب ذهبية فحسب، بل سعى الفنانون الى بناء نظاما متكاملا وفق النسب الذهبية في مجمل التكوين للوح المسندي. هذه البصيرة الجمالية صنعت فرقا بين الحروف والنقوش العادية والاستثنائية.
الشكلان (21،22)
الشكلان (21،22) تصميم اللوح المسندي وفق مقاييس النسبة الذهبية لاحظ توزيع الاسطر النصية والبراويز الخارجية وضبط مستويات الحفر والبروز (انقر على الصورة للتكبير)
والنسبة الذهبية هي اداة في التصميم وليست قاعدة مفرطة الحدة، فلا يقتصر سر جمال حروف المسند واي جمال بالعموم باستخدامها الحديدي، فالجمال شيء نسبي وليس مطلق، ولكن باستلهامها وتطويعها الى جانب التناسب المتزن بين العناصر واطوالها استطاع صانعو الحرف ان يحققوا تناغما بصريا شاملا في أعمالهم الإبداعية، بدأ من الحرف وتراكيب الحروف وحتى مجمل النقش المسندي بإطارة الحيواني او النباتي او الهندسي كمنتج جمالي ومعرفي.
الأشكال (23،24،25)
لم تكن النسبة الذهبية المعيار الوحيد في صنع الجمال بل استخدم مبدعو الحروف طرائق مثل التقابل والتناظر والتوزيع النسبي لعناصر الحرف لخلق التكوين الامثل، كما تلاحظ في الأشكال (23،24،25) الحروف ( ش 𐩦 ) ، ( د 𐩵 ) ، ( سامخ 𐩯 ) (انقر على الصورة للتكبير)
حقا كان مبدعو سبأ وحضرموت وقتبان واوسان ومعين وحمير يعرفون قيم الجمال جيداً. وتدلنا النقوش المسندية على استخدامهم لقياس النسبة الذهبية منذ زمن طويل وعلى نطاق واسع، فهم لم يكونوا ينقشون حروفا للتعبير عن أفكارهم بل كانوا يخلقون فنا وجمالا وضع الحضارة اليمنية على امتداداتها بجوار الحضارات الخالدة كحضارة بلاد الرافدين والحضارة الكنعانية والحضارة الفرعونية والحضارة اليونانية والحضارة الصينية وحضارة وادي السند وحضارة الأنديز.
وفي الأخير، لا استدعي في هذا المقال نوازع الوطنية والفخار، بقدر ما اتمنى التوفيق في زيادة الوعي بالتعامل اللائق مع مخزون ثري من النقوش والآثار يعاني الأمرين (اهمال المخولين وعبث النهابين). وسيزيد من محو هذا الضباب البحوث التي سيقدمها الدارسون في الفنون والعمارة والاثار و اللغويات.
واني اهيب بكل من له تأثير من اي نوع عند متخذ القرار بالسعي والدعوة الى اعلان اليوم الوطني للمسند، يحييه صناع الفكر والادب والثقافة والفن والاعلام ورجال الأعمال، وتشرف به الساحات والقنوات والمدارس والجامعات والمنظمات والملحقيات، ومن حقنا ان نطمح أيضا الى العمل المنظم نحو إعلان اليوم العالمي للمسند، وليس ذلك اليوم ببعيد.
ملحوظة: تسميات الحروف باللاتينية حسب ورودها في شيفرة اليونيكود، للمزيد انقر على الحرف المطلوب، ان لم تظهر اشكال الحروف لديك فلأنه ليس في نظامك خطا من خطوط المسند الرقمية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق