الاثنين، 8 يناير 2018

النقش المسندي كمعطى جمالي


سرقة النقوش نوعان:
 
نصادف صورا لآلاف النقوش حول العالم، التي تملأ مواقع المتاحف والمكتبات والموسوعات بلغات مختلفة، صنعت بمهارات فنية متفاوتة، منها ما يستدعي الرهبة ومنها ما يدل على الفجاجة في الصنعة، ننجذب كثيرا لحجر رشيد الاسود (Rosetta Stone) بنصوصه الثلاثة، الذي شكل فتحا كبيرا في معرفة الهيروغليفية.. ونسعد عندما يقال لنا ان عشرات الآلاف من النقوش والمساند تغطي شبه الجزيرة العربية، ومثلها مطمور تحت التراب ، ونحزن ان نقوشا ومساند تسرق ، ولكن، لنا ان نعرف ان هناك نوعان من السرقة مع اعتراضنا عليها: الاولى سرقة علمية والثانية سرقة غير علمية، فالعلمية تنقل الأثر الفني وتبرزه وتحلله وتنشره علميا وفنيا، ويستفيد منه الوسط العلمي والثقافي والتاريخي بالرغم من جريمة نقل الاثر الى خارج وطنه ولا ندري متى يعود، أما السرقة غير العلمية فهي التي تسلخ الاثر عن سياقه الزمكاني وتقطع صلته بالعلم والثقافة وتفقدنا لبنات مهمة في بنيان معرفة التاريخ وصانعيه.

نوستالجيا:

ان تدرس نقشا من الناحية الفنية والتصميمية لابد لك من منهجية، ولابد من ادوات للدرس الفني، ولكن لا تغفل ان من نقش المساند بالأزاميل على الحجر الجرانيتي منذ القرن العاشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي كان يمثل تيار الحداثة في صناعة وفن الحروفية العالمية على الحجر ، اقول هذا ليس مغازلة لنوازع النوستالجيا، فاختراع الكتابة تشاركت به كل الحضارات وتناقلت هيئات الحروف حول العالم كما تنقل الريح حبوب اللقاح، ولكن صناعة النقش المسندي لم تكن تجميعا ميكانيكيا لحروفه دون تأصيل تشكيلي وجمالي، بل انها كانت تعبيرا عن التراكمات الابداعية التي اختزنتها أرض سبأ وحضرموت ومعين وقتبان وحمير مجتمعة - بتعبير حديث "اليمن".

انتاج النقش صناعة:

هو صناعة بأدوات ومواد عمل محكومة ببيئتها وزمانها، فأهم مادة عمل الى جانب مواد أخرى كانت الاحجار التي تزخر بها السلسلة الجبلية الممتدة من جنوب الجزيرة العربية حتى شمالها، واهم اداة عمل لتثقيف الاحجار في ذلك الوقت كانت الازميل، وقد أخذ الإزميل كأداة عمل رئيسية أحجام وأطوال وأوزان، وجهزت رؤوسه الحافرة بزوايا محدد ومتنوعة من أكثرها ضيقا حتى أوسعها انفراجا لتسهيل الحفر والنحت على صفحة الحجر الصوان. وهناك أدوات عمل اخرى مساعدة مثل المطارق المتنوعة وأدوات التسطير والقياس والقولبة والتأثير اللوني لتعليم وضبط موضع كل حرف من النقش.

انتاج النقش علم وفن:

من حيث نظرة صانع النقش اليه كمشروع فني من لحظة االشروع بالعمل حتى اكتماله، فهو يختار الحجر المناسب من حيث النوع والطول والعرض، وبعد معرفة حجم النص وقياس مساحة سطح الحجر المعد لمشروعه الفني ، يفكر من ناحية بعدد الحروف اللازمة في السطر الواحد لضبط عدد الاسطر على السطح وتحديد ارتفاعها والمسافة بينها والهامش حولها، أي أنه يضبط التوزيع الفراغي لهيكل النقش بعيدا عن العشوائية والارتجال، بلغتنا المعاصرة كان يفكر بالتكوين الفني؛ ومن ناحية أخرى كان يفكر باختيار النمط المناسب من حروف المسند، فالمسند يزخر بطائفة من الانماط الفنية فهناك السميك والنحيف والعالي جدا والقصير وهناك الحرف بحليات والحرف بدون حليات، ويكون الاختيار الأنسب هو ما يتوافق ومساحة السطح وحجم النص وعمق الحفر أو الحز والفسحة الزمنية، بعبارة أخرى كان يفكر بالحرف، أي أن صانع النقش كان مسلحا بمنهجية فنية رفيعة لإنتاج عمله الفني والجمالي وأهمها التكوين والحرف.

ما بين نقش ونقش:

ولقياس ما بلغته النقوش المسندية من احترافية فنية، يختار افضلها حرفا واجملها تكوينا ، فأنماط من المسند بلغت من الكمال اقصاه ،كما بلغ خط الثلث الجلي يومنا، فالنقوش على كثرتها هي منتجات ضرورية لأغراض صانعيها المتفاوتة مستوياتهم الفنية ومهاراتهم واهتماماتهم تجاه النقوش، فالنقوش الرديئة الحرف والتكوين لم ينجزها حروفي ماهر ولم يأمر بها نافذ كبير عليم ، والنقوش المهيبة كان صاحبها ذو شأن وأهمية ومكانة ومقدرة على دفع التكلفة لصناعة النقش الجليل كعمل فني مكتمل الاركان، حيث ينفذه محترفون كبار، حريصون على ان تكون مساندهم بعد نقشها معنية بعناصر جمالية مثل المقروئية والتوازن والتماثل والسيادة والانسجام . مخلفين لنا معمارا تشكيليا فريدا أسهم في التعبير عن مجد وعظمة حضارة عريقة.